المراسل: مقالات
ناصر قنديل
– استعصاء التوصل إلى تسويات يشبه استعصاء الذهاب إلى الحروب الكبرى، وبقدر ما تبدو الأطراف المتقابلة قادرة على التمسّك بشروطها التفاوضيّة، وتملك مزيداً من القوة لحماية هذا الثبات، تبدو حاسمة في عدم الانزلاق نحو مواجهة شاملة تعرف أن خسائرها أكبر من عائداتها، وأنها تعطل عليها برامجها الاستراتيجية الأصلية، وهذا يصح بالقوى الكبرى المنخرطة في المواجهة مع أميركا وهي روسيا والصين وإيران، لكنّه يصح أكثر بالنسبة لأميركا نفسها.
– وضع «إسرائيل» وأوكرانيا متشابه في هذه المواجهة، حيث التسويات سوف تتم على حساب كل منهما، بينما تايوان لا تبدو أصلاً في وضعية القادر على تعطيل تسويات أو فرض حروب أو خوضها. بنيامين نتنياهو في مأزق كبير أمام خطر انهيار حكومته مع احتمال حل الكنيست، وفقدان الأغلبية الحامية للحكومة وما يعنيه ذلك أبعد من مجرد الخسارة الشخصيّة ومخاطر دخوله السجن، إلى تهديد مشروع تقف وراءه اليوم قوى الكيان الصاعدة التي يمثلها المستوطنون وقوى الصهيونية الدينية والقومية، والتي يعني خروجها من الحكم خطر تهديدها بحرب أهلية، ونتنياهو حلفاؤه في اليمين الحاكم عاجزون عن إحداث اختراق عسكريّ في جبهة غزة أو اليمن أو التصعيد المفتوح في جبهة لبنان، بينما يمثل الرهان على استثمار تأزم المسار التفاوضي بين واشنطن وطهران فرصة لا تُعوَّض في حساباتهم لفرض حرب كبرى تنخرط فيها أميركا.
– في أوكرانيا يستثمر فلاديمير زيلينسكي على مقار مالية أوروبيّة يشتري بها سلاحاً أوروبياً وأميركياً، بعد توقّف التمويل الأميركي، لكن دون توقف الدعم الاستخباريّ، وربما المشاركة الضمنية للدولة العميقة والشركات العسكرية الأميركية في تصميم وتنفيذ ضربات موجعة لروسيا كعملية استهداف طائرات العمق الروسي، لكن هذا لا يغير معادلة الحرب حيث العاصمة كييف لم تعد مكاناً آمناً، وحيث التغييرات الجغرافيّة العسكريّة تجري بتسارع لصالح القوات الروسية خصوصاً بعد اجتيازها نهر دنيبرو، وتوجهها نحو أوديسا لاحقاً، ولذلك يحلم زيلينسكي بلحظة تصادم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب تفتح له آفاق التملّص من تسوية قاتلة لنظامه، ما لم تنقلب الأرض تحت أقدامه في كييف نفسها.
– عملياً لا توجد إمكانية جمع بين فكرة الحرب مع روسيا أو إيران أو الصين، وبرنامج ترامب الداخلي وهو يواجه مشهداً لا يُحسَد عليه، كما تقول خلافاته مع شريكه المعنوي في الحكم إيلون ماسك، وفي الخلفية حرائق لوس انجلس ونشر الحرس الوطنيّ في مواجهة أغلبية سكان ولاية كاليفورنيا، التي لا يمثل البيض فيها أكثر من ربع السكان، مقابل انتماء نصف السكان إلى أصول لاتينية، والاستقرار الخارجي مطلب جوهري لنجاح مشروع إنعاش الاقتصاد الذي يشكل حاجة وجودية لبقاء ترامب في الحكم، أمام أزمة بنيوية تعصف بالاقتصاد وقد تراكمت عناصر التأزم إلى حد الانفجار، مع بلوغ الدين 36 تريليون دولار مقابل إنتاج وطني بـ 26 تريليوناً فقط، مع عجز عن الاستدانة وعن ضخ مزيد من الأوراق النقدية في ظل تراجع تداول الدولار عالمياً من 94% إلى أقل من 70%، ولكن الحال متشابه بالنسبة لحسابات روسيا والصين وإيران لجهة عدم الرغبة في الانزلاق إلى المواجهة، مواصلة برامج النمو والبناء.
– التسوية الصعبة والحرب المستحيلة تعنيان استمرار الصفيح الساخن وازدياده سخونة، خصوصاً في المسار الأميركي الإيراني، حيث تدرك إيران أن كبح الجموح الإسرائيلي هو الطريق لبقاء التفاوض آمناً حتى لو كان معقّداً وطويل الأمد. وهنا تجدر ملاحظة دلو الماء البارد الذي سكبته طهران على الصفيح الساخن، مع الكشف عن النجاح المُبهِر لعمل استخباريّ ضخم أنجزته أجهزتها خلال سنوات واكتمل قبل أسابيع ووصلت ثمراته الكاملة آمنة إلى طهران قبل أيام، إلى حد أتاح لأحد المسؤولين الإسرائيليين السابقين القول لقناة عبريّة إن «إسرائيل» باتت عارية أمام المرآة الإيرانية، لأن الأرشيف السريّ كله بات بين يديها، وهذا ما أشار إليه مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي بنقله عن المسؤولين الإيرانيين أن المنشآت النوويّة السريّة سوف تكون أهدافاً للصواريخ الدقيقة الإيرانية إذا غامرت «إسرائيل» بعمل أخرق ضد إيران.
(0)